«الحج» .. ذلك المشهد الإسلامي الفريد، الذي تتوحد فيه الألسن على تلبية
واحدة (لبيك اللهم لبيك)، وتتوحد فيه الأبدان على رحلة واحدة (عرفات
ومزدلفة ومنى)، وتتوحد فيه السلوكيات على أسمى غاياتها (فلا رفث ولا فسوق
ولا جدال في الحج)، وتتوحد فيه القلوب على رغبة واحدة (الرحمة والمغفرة) ..
مشهد تهون فيه مشاق الرحلة، وتهون فيه الأموال المبذولة، وتهون فيه الأوقات
المقطوعة، بل وتهون فيه الدنيا بأسرها.
روى مسلم في صحيحه عن عكرمة بن خالد المخزومي أن رجلاً قال لعبد الله بن
عمر -رضي الله عنهما- ألا تغزو؟ فقال: إني سمعت رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- يقول: «إن الإسلام بني على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام
الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وحج البيت».
إن أول ما فُرض بعد تصديق المعصوم صلوات ربي وسلامه عليه، عبادات الأبدان،
وقدمت على ما يتعلق بالأموال لأن النفوس على الأموال أشح، وبما يتعلق
بالأبدان أسمح، وذلك الصلاة والصيام، قدمت الصلاة على الصيام لأن الصلاة
أسهل فعلاً وأيسر عملاً، وجعلها الله عز وجل مشتملة على خضوع له وابتهال
إليه، فالخضوع له رهبة منه، والابتهال إليه رغبة فيه.
ثم فرض الله تعالى الصيام، وقدمه على زكاة الأموال لتعلقه بالأبدان، وكان
في إيجابه حث على رحمة الفقراء وإطعامهم وسد جوعاتهم، لما عاينوه من سوء
المجاعة في صومهم، فقد قيل ليوسف عليه السلام: أتجوع وأنت على خزائن
الأرض؟! فقال: «أخاف أن أشبع فأنسى الجائع».
ثم فرضت زكاة الأموال فكان في إيجابها مواساة للفقراء ومعونة لذوي الحاجات،
تكفهم عن البغضاء، وتبعثهم على التواصل، لأن الأمل وصول، والراجي هائب،
وإذا زال الأمل وانقطع الرجاء واشتدت الحاجة، وقعت البغضاء واشتد الحسد،
فحدث التقاطع بين أرباب الأموال والفقراء، هذا مع ما في أداء الزكاة من
تمرين النفس على السماحة المحمودة ومجانبة الشح المذموم.
ثم فرض الحج، أعظم رحلة إلى الله تعالى، فكان آخر فروض الإسلام، وزينة أهل
الإيمان، لأنه يجمع عملاً على بدن وحقاً في مال، فجُعل فرضه بعد استقرار
فروض الأموال، ليكون استئناسهم بكل واحد من النوعين، ذريعة إلى تسهيل ما
جمع بين النوعين، فكان في إيجابه تذكير ليوم الحشر بمفارقة المال والأهل،
وخضوع العزيز والذليل في الوقوف بين يديه جل وعلا، واجتماع المطيع والعاصي
في الرهبة منه والرغبة إليه.
قال الشيخ عطية سالم: وحج البيت منهج إسلامي متكامل، إن كان من جهة العبادة
وإفرادها لله تعالى، فهي في شعارك: «لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك
لبيك»، وإن كان في إقامتك للصلاة فأنت تصلي في سفرك للحج، وتلزم بركعتي سنة
الطواف، وإن كان في الصوم {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ
فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ
فَصِيَامُ..}[البقرة:196]، فيأتي الصيام أيضاً في الحج. وكذلك الزكاة؛ لأن
الحج يستلزم نفقة في سبيل الله، وهكذا جميع العبادات تأتي ضمن أعمال الحج.
ومن قال إن الحج «مجسم مصغر للإسلام» فليس قوله بعيداً، بل أعمال الدين
والدنيا ماثلة في الحج؛ من حل وارتحال، وأعمال مالية وبدنية وتعاون الجميع؛
كل ذلك ماثل في الحج. (1)
الحج جماع الخير
مشاهد القلوب المؤمنة، والأبدان المجتمعة، تبين الحكمة الربانية في أن الحج
لا يكون طيلة العام .. ففي هذا التجمع السنوي الكبير بلباس واحد، وأعمال
واحدة، تتجلى الدروس والعبر، فتستشعر القلوب يوم لقاء الديان في يوم الحشر
العظيم، الذي يحاسب فيه العباد على القليل والكثير، والعظيم والحقير،
والجليل والقطمير. وهذا مقصد صلاح القلوب، وتهذيب السلوك، وإليه أشار الله
تعالى في مطلع سورة الحج {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ
زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ
مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا
وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ
شَدِيدٌ} [الحج:1-2]
وفي الحج جهاد ومثابرة، ومشقة سفر إلى صحراء جرداء لا نبات فيها ولا نبع
ماء، وعزيمة تبذل في غير متاع الدنيا، وإرادة تشحذ في سبيل الجنة، ولذلك
تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله ألا نغزو ونجاهد معكم؟
فقال: «لكن أحسن الجهاد وأجمله حج مبرور» فقالت عائشة: فلا أدع الحج بعد إذ
سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم (2)
الحج نداء الوحدة
وفي الحج تتجسد هوية الأمة الإسلامية وتذوب كل الهويات الأخرى .. إنه هتاف
الوحدة الربانية، فكم ذقنا من مرارة الفرقة والتشرذم، وكم عانيا من تشتت
الآراء والنظريات والفلسفات، وكم سرنا وراء غير منهجنا الإسلامي فلم نجن
سوى الحنظل والهزائم .. نعم الحج وحدة، والحج اجتماع وألفة، والحج تجانس
وعصمة، فيه تزول الفوارق والمشاحنات والاختلافات، وهي نعمة لا تدانيها
نعمة، قال تعالى: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي
الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ
أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:63] "فكان التأليف
بينهم من آيات هذا الدين، لما نظم الله من ألفتهم، وأماط عنهم من التباغض"
(3)
وفي الحج تتجلى أسمى معاني الولاء والبراء، والحرص على تمايز المسلم
بشخصيته الإسلامية النقية، خاصة وأن النبي صلى الله عليه وسلم حرص دوما على
مخالفة أعراف المشركين المتوارثة في الحج، بدأً بالتلبية، حيث نهى صلى الله
عليه وسلم عن تلبية المشركين: «لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما
ملك».
وخالفهم عليه الصلاة والسلام في تجاوز الوقوف بمزدلفة ووقف في عرفات مع
الناس، بأمر من ربه عز وجل. كما روت عائشة رضي الله عنها: (كانت قريش ومن
دان دينها يقفون بالمزدلفة، وكانوا يسمون الحُمس، وكان سائر العرب يقفون
بعرفات، فلما جاء الإسلام أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأتي
عرفات ثم يقف بها ثم يفيض منها، وذلك قوله عز وجل: {ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ
حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة: 199] (متفق عليه).
ثم خالفهم صلوات ربي وسلامه عليه عند دفعه من مزدلفة، وذلك بدفعه بعدما
أسفر جداً، وقبل طلوع الشمس، مخالفة لقريش الذين كانوا ينتظرون طلوع الشمس،
ويقولون: «أشرق ثَبِيْر كيما نُغير». ويقصدون بذلك جبل «ثبير» لأن الشمس
تشرق من خلفه.
أيضا خالف النبي صلى الله عليه وسلم المشركين بعدم النزول في وادي «مُحسّر»،
وذلك لأن الله تعالى قد حبس الفيل في هذا الوادي، ولأن قريشاً كانت تنزل
فيه وتفتخر بأنسابها وأحسابها، فخالفهم الرسول صلى الله عليه وسلم، وأمر
أصحابه بالإسراع، ولم ينزل في الوادي، ولم يفعل ما كانت تفعله قريش.
رحم الله العابدين
ومن في الناس مثلهم .. فهم خير الخلق قدوة، وأسمى الناس همة .. عرفوا طريق
مرضاة ربهم، وأنار الله بحبه بصائرهم، وقوى على الطاعة عزائمهم.
روى الذهبي في السير (5/97) قال نافع: سافرت مع ابن عمر بضعا وثلاثين حجة
وعمرة.
وحج الحسن خمس عشرة مرة، وحج كثيرا منها ماشيا من المدينة إلى مكة ونجائبه
تقاد معه (4)
قال الجريري: أحرم أنس بن مالك من ذات عرق، فما سمعناه متكلما إلا بذكر
الله حتى حل، قال: فقال له: يا ابن أخي، هذا الإحرام (5)
وعن هلال بن خباب، قال: كان سعيد بن جبير يحرم في كل سنة مرتين، مرة للحج
ومرة للعمرة. (6)
قال ابن حبان: كان طاووس من عباد أهل اليمن، ومن سادات التابعين، مستجاب
الدعوة، حج أربعين حجة.
وعن سحنون الفقيه، قال: كان ابن وهب قد قسم دهره أثلاثا، ثلثا في الرباط،
وثلثا يعلم الناس بمصر، وثلثا في الحج. وذكر أنه حج ستا وثلاثين حجة. (7)
وقال ابن رجب عن ابن القيم: «وحج مرات كثيرة، وجاور بمكة، وكان أهل مكة
يذكرون عنه من شدة العبادة وكثرة الطواف أمرا يُتعجب منه». (8)
ولقد ألف كتابه القيم «مفتاح دار السعادة» بمكة. يقول ابن القيم في آخر
مقدمته له: «كان هذا من بعض النزل والتحف التي فتح الله بها على حين
انقطاعي إليه عند بيته، وإلقائي نفسي ببابه مسكينا ذليلا، وتعرض لنفحاته في
بيته وحوله بكرة وأصيلا، فما خاب من انزل به حوائجه، وعلق به آماله، وأصبح
ببابه مقيما، وبحماه نزيلا»